الدكتور ”قطبي المهدي” يكتب: خلال حرب الأيام الستة

كتب القيادي الدكتور قطبي المهدي
خلال حرب الأيام الستة (أو الساعات السته فى رواية) فى يونيو 1967، ظللنا مسمرين على أجهزة الراديو مشدودين مع حنجرة مذيع صوت العرب الشهير أحمد سعيد وهو يلعلع فى حماس مفتعل: أسقطنا 35 طائرة ثم تعزف الموسيقى وتصدع الأناشيد الهتافية للزعامات الخالدة، فتشتعل الجماهير حماساً ويرتفع الأمل بقرب إلقاء إسرائيل فى البحر كما وعد الزعماء الابطال فى عنترياتهم الكاذبة.
ونعود للمذياع مرة أخرى فيبشرنا المذيع ثانية بأننا قد أسقطنا 50 طائرة أخرى فيما تتقدم الجيوش عبر مضائق سينا الثلاثة متوغلة فى أرض العدو صوب تل أبيب، ونعود نهلل ونكبر وقد استبد بنا الحماس كلما زاد عدد الطائرات التى أسقطناها أو بالأحرى أسقطها المذيع الهمام.
واستمر الحال حتى اليوم السادس حينما أفقنا على الحقيقة الفاجعة بأننا لم نسقط ولا طائرة واحدة وأن جميع طائراتنا قد دمرت فى بداية المعركة وهي على الأرض وأصبحت الجيوش التى ظننا أنها على أبواب تل أبيب بلا غطاء جوى فتم تدميرها خلال ساعات فى أكبر مجزرة منذ ستالين غراد قبل أن تتحرك شبراً واحداً وانتهت الحرب بهزيمة ثلاثة جيوش عربية فى ستة ايام واحتلال كامل سيناءوالعريش وكامل فلسطين (غزة والضفة الغربية بما فيها القدس الشريف) وهضبة الجولان الاستراتيجية، كانت الصدمة التى تلقتها الأمة العربية بسبب الكذب عليها لا توصف.
تحضرنى هذه التجربة المريرة التى عشتها وعاشها ابناء جيلى وانا اتابع الاخبار التى يتم نشرها(ممن ؟ لا ادرى) عن الاحداث وسير المعارك وتتلقاها الجماهير المتلهفة للنصر واستتباب الأمن وعودة الحياة التى سلبت منهم إلى وضعها الطبيعى بعد أن بلغ بهم الضيق منتهاه، فأصبحوا يتذمرون ويتضجرون (من عدم الحسم) بل وأحيانا قد يساورهم الشك فى فعالية الخطط العسكرية وربما حتى الثقة فى جدية مواقف القيادة حيال المستقبل السياسى نفسه.
ذكرت سابقا فى هذا القروب ان هذه الفوضى الاعلامية وتداعياتها السالبة سببها غياب الاعلام الحكومى.
نعم ليس لنا حكومة ولا وزارة اعلام ولكن الأمر لا يتطلب سوى ناطق رسمى عسكرى يدرك مسؤولياته فى تبصير الرأي العام ويكون له مؤتمر صحفى يومى مع وسائل الإعلام الوطنى والأجنبى لا يكتفى بالتنوير بل يجيب على الأسئلة والاستفسارات كذلك ويضع النقاط على الحروف.
هناك ناطق رسمى لكنه فيما يبدو لا يرى ضرورة للحديث إلا إذا كان لديه خبر سار ومؤكد ليذيعه، وهذا جميل لكنه ناقص، لأنه أولا يترك فراغا كبيرا تملاه المصادر غير المأذونة بما تشاء من معلومات ويفتح بابا خطرا وثغرة كبيرة امام الاعلام المضاد والحرب النفسية والتضليل الاعلامى الناعم.
وثانيا ليس بالضرورة أن تكون مهمة الناطق إعلان الانتصارات فقط انما التحدى الحقيقى هو ان تضع الحقائق كاملة وبكل امانة امام الراي العام حتى وإن كانت غير سارة ومؤلمة مع القدرة التامة فى عرضها بما يقنع المتلقى بان جهدا كاملا قد بذل بكل اخلاص وصدق وتضحية لكن لظروف خارجة عن الارادة يتم شرحها، وقدر الله خيرا، فان الجماهير لن يزيدها ذلك إلا ثقة فى قواتها وتعاطفا معها وتعاونا ودعما لجهادها ومعاركها.
نحن فى هذه المعركة اصحاب حق، لا يضيرنا ان نخسر معركة أو موقعا ما دمنا قد قدمنا جهدنا أرواحا ودما، ولن يلومنا احد على ذلك.
فان لم يكن النصر فالشهادة وفى كل نجاح وشرف.