رؤية جديدة السودان

رؤية جديدة السودان

قناة رؤية جديدة
أهم الأخبار

د. ”ياسر يوسف إبراهيم” يكتب: موازين القوة وحسابات النصر في حرب السودان

تحدد النظريات العسكرية القديمة والحديثة معايير ثابتة موضوعية وذاتية لتقييم سير المعارك الحربية وترجيح كفة مساراتها ومحطاتها النهائية ، ومع أنه يصعب التقرير بدقة حول نتيجة أي حرب إلا أن بعض مؤشرات البيئة المحيطة بالحرب ستساعد في قراءة موازين القوة وشروط الإنتصار.

وإذ يأمل الملايين من المدنيين السودانيين اللاجئين حول العالم والنازحين داخل البلاد في إنتهاء الحرب الجارية حاليا بين الجيش السوداني ومليشيا الدعم السوداني ، والتي اندلعت منذ ما يقارب العام والنصف في العاصمة الخرطوم قبل أن تنقلها مليشيا الدعم السريع لأطراف واسعة من البلاد في دارفور وولايتي الجزيرة وسنار الغنيتين بالموارد الزراعية، فإن مبعث القلق بالنسبة لهم هو أن الحرب قد طالت أكثر مما ينبغي، وهم محقون كامل الحق في ظل المعاناة القاسية التي يتكبدونها في الداخل والخارج.

وعلى خلفية عدم الإلمام التام بطبيعة الحرب حين اندلاعها، حيث كان الظن أنها حرب قصيرة بين الجيش وفصيل تمرد عليه، قبل أن تتضح طبيعة المؤامرة وحجم الإسنهداف للبلاد والشعب.

فمنذ الأسبوع الأول تم إحتلال منازل المواطنين ودمرت المستشفيات والجامعات، ونهبت البنوك، وحرقت سجلات الأراضي، فاتضح أنها حرب شاملة خطط لها أن لا تبقي ولا تذر شيئا من (السودان القديم) الذي بحسب المليشيا وداعميها المدنين في تحالف (تقدم) يجب أن يدمر تدميرا نهائيا.

وبناء على ذلك تم إرتكاب إنتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان، مخالفات واضحة وجسيمة للقوانين الدولية التي تحرم الإعتداء على المدنيين ، حيث تنص القاعدة 7 من القانون الدولي الإنساني العرفي علي ما يأتي (يميز أطراف النزاع في جميع الأوقات بين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، ولا يجوز أن توجه إلي الأعيان المدنية أي أعمال عسكرية) كما تنص القاعدة 54 على (تحظر مهاجمة الأعيان والمواد التي لا غني لبقاء السكان المدنيين أو تدميرها أو نقلها أو تعطيلها ) وعلى الرغم من توقيع الطرفين على إعلان جدة في مايو من العام 2023 والذي ينص صراحة على وجوب إخلاء الأعيان المدنية والخروج من منازل المواطنين إلا أن المليشيا وتحت تبرير حلفائها المدنيين رفضت تنفيذ ذلك الإعلان ...

وفي ظل ترقب السودانيين لحل ينهي معاناتهم ويمكنهم من العودة لمنازلهم وأعمالهم ، يطرح التساؤل الملح ما هو التصور المتاح لإنهاء هذه الحرب؟

تفيد تجارب السودان المتعددة أنه مهما استطال أمد الحرب وتباعدت بالأطراف المواقف فإن الحل التفاوضي في النهاية هو الذي سيضع اللمسات النهائية للحرب ويسكت البنادق، ولكن ومن واقع ما يجري على الأرض فإنه من غير المتصور أن تكون هناك أي مبادرة بإمكانها تقريب المواقف، اللهم إلا في حالة شعور أي من الطرفين بأن التطورات الميدانية لن تخدم أهدافه السياسية، وهنا يمكننا الإعتماد علي نظرية الفيلسوف والجنرال الصيني صن تزو الذي عاش قبل أكثر من ألفي عام، وترك كتابه فن الحرب ليكون مدرسة علي مدي قرون من الزمان، حدد صن تزو سبعة أسئلة لتقييم أي حرب وتوقع نتائجها، يقول صن:

(اجعل هذه العناصر أساسا للمقارنة

١/ أي من حكام الطرفين أكثر تمسكا بعناصر القانون الأخلاقي ( الإنسحام ما بين الحاكم والمحكومين ) ..
٢/ أي من قادة الطرفين أكثر قدرة وتدبيرا
٣/ لصالح أي من الطرفين تميل عناصر السماء والأرض ( العوامل الجغرافية والمناخية )
٤/ أي من الطرفين يتبع النظام بحذافيره
٥/ أي الجيشين أقوي ( معنويا وبدنيا وعتاديا )
٦/ ضباط أي الجيشين أكثر تدريبا وإستعدادا
٧/ أي الجيشين أكثر إلتراما بمبدأ الثواب والعقاب
من خلال نتائج هذه الأسئلة السبعة أستطيع معرفة من سيصيب النصر ومن سيهزم) .
عد كل هذه المدة ما حسابات الربح والخسارة، وكيف يمكن قراءة إحتمالات رجحان كفة علي أخري ؟
وبناء على هذه الأسئلة سنحاول الوقوف علي حسابات الطرفين وتقييم مواقفهما وحساباتهما .

موقف الجيش السوداني :
يمتلك الجيش السوداني المشروعية الأخلاقية والسياسية في هذه الحرب بإعتباره الركيزة الأساسية للمحافظة على بقاء البلد موحدا ومعبرا عن الضمير الوطني الموحد، وبإعتباره الحكومة الوطنية المعترف بها دوليا والتي تمثل جماع أمر السودانيين..

كما أن الجيش يتوافر علي خبرة طويلة في إدارة المعارك ، حيث ظل في حالة قتال منذ خمسينيات القرن الماضي، ويجيد إتباع التكتيكات المرهقة للعدو وإستنزاف قدراته، وهذا ما بدا بصورة واضحة في تكتيكات المحافظة علي المواقع العسكرية واستدراج العدو نحو ما يمكن تسميته (بمعارك الأسوار) حيث جرت معارك ضارية علي أسوار القيادة العامة للجيش ، وفي مبني المدرعات، استطاع الجيش أن يصد مئات من الهجمات المتتالية من قبل الملبشيا، وتقدر أرقام قتلي مليشيا الدعم السريع فيهما بحوالي (. )

ومن الواضح أن الجيش اتبع إستراتيجية الجنرال الروماني فابيوس ماكسيموس ( إسنراتبجية فابيان ) التي تقضي بتجنب الدخول في معارك ضارية أو إشتباكات مباشرة مع الصفوف الأمامية لجيش العدو ، أو حتي الدخول معه في حرب حاسمة، وعوضا عن ذلك تستمر في إستنزافه ومراوغته علي أطول مدي من أجل إضعافه ..

هناك نقطة مهمة جدا وهي أن الجيش إستطاع خلال المرحلة السابقة وبجهود خارقة أن يعيد بناء منظومة التسليح بصورة فعالة بعدما تعرضت لهزة كبيرة في المرحلة الأولي للحرب نتيجة إستهداف التصنيع الحربي ومخزون الذخيرة حول ولاية الخرطوم ، بالإضافة إلى تدفق السلاح من جهات خارجية بصورة منتظمة ومؤثرة ..

كما أن الجيش يقاتل تحت مظلة نفسية ومعنوية مريحة ،وهو ما يسميه الفيلسوف الصيني بالإنسجام بين الحاكم والمحكومين، فقد أعادت له هذه الحرب بريقه وسط الشعب السوداني بصورة كبيرة وتجاوز ما لحق به من حملات تشويه ممنهجة قادتها قوي الحرية والتغيير (تقدم) طوال السنوات الماضية، وكإستثمار لذلك التعاطف الشعبي أطلق الجيش حملة المقاومة الشعبية، وانخرط عشرات الآلاف من الشباب السوداني القادر علي حمل السلاح، الأمر الذي مكن الجيش من معادلة القوة البشرية التي تتميز بها مليشيا الدعم السريع..

ويعتبر إلتحاق قوات الحركات المشتركة الموقعة على سلام جوبا بالحرب عامل دفع إيجابي كبير للجيش، إذ ساهمت مساهمة كبيرة في تعطيل تقدم قوات المليشيا في دارفور وعاصمتها الفاشر على وجه الخصوص..

ورغم هذه النقاط الإيجابية ، هناك ثلاثة عوامل ليست في صالح الجيش.

أولي هذه العوامل هي الوقت ، يقول صن تزو ( لا توجد سابقة تاريخية تذكر أن بلدا ماىقد استفاد من دخوله حروبا طويلة )
إذ كلما طالت الحرب ازدادت معاناة المواطنين الذين يعولون علي الجيش في حسم المعركة بصورة سريعة ، ومن جانب آخر فإن إطالة أمدها سيمكن المليشيا وداعميها من إجتراح مسارات للتسليح والدعم العسكري والسياسي ..
ثانيا علي الرغم من تنوع الحاضنة السياسية التي تدعم الجيش إلا أنه لا يمكن القول أن هناك جهة سياسية متماسكة تتولي مع الجيش تخطيط وإدارة المعركة في مستواها السياسي ، فقد إنعكس عدم تكوين حكومة مدعومة من حاضنة سياسية معلومة منذ قرارات الخامس من أكتوبر 2022 علي طبيعة العلاقة بين الجيش والقوي السياسية الداعمة له ، والتي كانت تنتظر فرصا أكبر في مطبخ القرار السياسي ..
ثالثا تأثرت العلاقات الخارجية للحكومة بالموقف الأمريكي المتذبذب حيال الجيش بعد قرارات أكتوبر ، فعلي الرغم من أنها لم تر في تلك القرارات إنقلابا عسكريا إلا أنها اتخذت مواقف معادية للجيش ، فتأثرت تبعا لذلك علاقات الحكومة السودانية مع الإتحاد الأوروبي والإتحاد الإفريقي وبعض الدول العربية..
حسابات مليشيا الدعم السريع:
تمكنت من إحتلال أجزاء واسعة من السودان ، حيث تنتشر في أربعة ولايات من أصل خمس في دارفور ، وتحتل ولاية الجزيرة ذات الموقع الإستراتيجي المهم في قلب السودان بجانب ولاية سنار ، وعلي الرغم من أن بعض العسكريين يري أن هذا الإنتشار غير منتج ومرهق عسكريا في نفس الوقت إلا أن قيادة المليشيا تري في ذلك ورقة ضغط مهمة في أي مفاوضات قادمة ..
تمتلك المليشيا حاضنة قبلية في أكثر من دولة أفريقية لديها الإستعداد الفطري للقتال وبشراسة ، وهو ما يمكنها باللغة العسكرية من ( إستعواض ) العنصر البشري مهما بلغت خسائرها فيه ..
كما أن إصطفاف تحالف تقدم المدعوم غربيا معها يجعلها في وضع الساعي المحتمل لتجسير علاقته مع الدول الغربية التي تري فيها قوات سيئة السمعة محملة بأثقال تاريخية من الجرائم في إقليم دارفور ..

هذا بجانب إستمرار تلقي المليشيا للدعم العسكري اللامحدود وفقا لما وثقته تقارير الأمم المتحدة والحكومة السودانية علي السواء ..

وعلي الرغم من كل تلك النقاط فإن هناك قضية جوهرية تؤثر علي صورة مليشيا الدعم السريع وهي حجم الجرائم غير المسبوق المرتكب بحق السودانيين منذ إندلاع الحرب ، فقد تجاوزت جرائم القتل ، الإغتصاب ، السلب والنهب ، والإعتداء علي الممتلكات الخاصة والعامة كل وصف، وفقدت أي مشروعية أخلاقية تمكنها من تولي أي مسؤولية عامة علي الشعب السوداني ، فحيثما إحتلت من المدن والقري هجرت المواطنين ونهبت ممتلكاتهم ..

ومن ناحية أخرى لم تستطع قيادة المليشيا من تحديد هدفها من هذه الحرب ، إذ ظلت الأهداف متحركة ومتغيرة كل مرة ، أما في الجانب العسكري فإن عدم الكفاءة هي السمة البارزة في التنظيم الهيكلي لهذه القوات التي تعتمد مزيجا من النظم القبلية الأهلية ، وثقافة الحركات غير النظامية ، وفوضي في منظومة القيادة والسيطرة ..

قد تطول الحرب على السودانيين وتزداد معاناتهم ، ولكن في النهاية هناك قناعة راكزة بأن الجيش سيكسب هذه المعركة في النهاية ، وهذه القناعة هي التي ربما ستدفع قيادة المليشيا وداعميها الإقليميبن لتنفيذ الخطة البديلة بإعلان حكومة موازية قد تتطور مستقبلا لمشروع إنفصالي ، ولكل ذلك فإن الطرفين مدعوان إلي الإستفادة من حكمة التاريخ والتجارب السابقة بالإقبال علي الحلول التفاوضية التي تنهي معاناة السودانيين وتحفظ السودان وحدته ومستقبله ..