الشيخ ”عبد الله البدري” يكتب: العجب العجيب شرق القضيب

الشيخ عبد الله البدري ...العجب العجيب شرق القضيب
د. عثمان البشير الكباشي
صوته فيه نغمة لذيذة وهمس لطيف تماما كتعريف أهل علم التجديد (للغنة ) التي تركب في النون الساكنة والتنوين .
مجلس حضرته يفيض بالدفء والرحابة والأنس الشفيف واللطف المزروع عميقا في داخل شخص سيدنا الشيخ عبد الله البدري .
تتداعى الحكايات في مجلسه فيض من متعة وفوائد تنشط الهمم الكسولة وتحفز نحو التطلع إلى الثريات البعيدة ، وجد السير في طريق العروج المبارك ، تماما كما قال ابن الفارض في وصف حال الأصفياء:
صفاء ولا ماء
ولطف ولاهواء
ونور ولانار
وروح ولاجسم
ملخص تجربته الشخصية هو : لو تعلقت همة أحدكم بالثريا لنالها .
(الرؤيا ) عنده كانت شديدة الوضوح ، لكنها تبدو للأغيار شبه مستحيلة ، والفكرة عنده مكتملة تماما دون إلتباس أو تشويش ، وإن كان البعض يظنها محض خيال حالم بعيد المنال .
حدثنا عن ميلاد تلك الفكرة التي انتهت بتوفيق المعين وهمة الرجل إلى جامعة هى الأميز في تخصصها ومخرجاتها على مستوى السودان وربما العالم أجمع .
غير أن الشيخ الراحل المرحوم عبد الله البدري لم يكن منبتا في تصوراته هذه عن ميراث بيته الزاخر بالحكمة والصلاح والرشد المقيم .
كنت أتردد على فضيلته سنوات التسعينات وأنا في طريقي لأبي حمد .
من بلدته المباركة القدواب نسلم أنفسنا لصحراء العتمور الموحشة الوعرة لساعات أربعة قبل أن نبلغ أبوحمد ،ولكن زاد الروح في القدواب كان يكفينا ليس لعبور تلك القفار الموحشة وإنما (عتامير ) الحياة كلها .
حكى لنا الشيخ عن والده الشيخ البدري الذي مثلت حياته ومماته زادا وأي زاد لمسيرة ابنه المبارك.
يحكي الراحل الشيخ عبد الله بصوته الفخيم وهمسه الماتع حكاية تجديد البناء وتوسعة مسجد والده الشيخ البدري في القدواب شمال مدينة بربر.
شارك في إفتتاح المسجد في سبعينات القرن الماضي وفد كبير من العاصمة الخرطوم ضم البروفسور عون الشريف قاسم وزير الشؤون الدينية والأوقاف في عهد الرئيس النميري ،وكان الحدث مجال تعليق كل الولاية الشمالية وضيوف الخرطوم لما رأوا سعة وجمال عمارة المسجد في شكله الجديد .
وتدافع الناس نحو الشيخ البدري بعبارات التهاني والإعجاب ،فرد عليهم بأفق ينظر بنور الله : ( العجب العجيب شرق القضيب ) !!!
لم يفهم الناس من هذه العبارة إلا أن ثمة أمر كبير قادم شرق السكة حديد ، سيأتي يوما ما ليضاعف عجبكم هذا لمن يقدر الله له العيش يومذاك !!!
أما الحكاية بالغة الدلالة على صلاح وكرامة الشيخ البدري فهى فوق كل خيال .
يقول الراحل الشيخ عبدالله البدري: كان الوالد يؤم الناس في صلاة الجمعة وفي تلك الجمعة تحديدا قرأ الوالد في ركعتى الصلاة قوله تعالى ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون )
يقول الشيخ عبد الله: أضمرت أن أسال الوالد عن حكم تكرار الآية نفسها في ركعتي الصلاة ؟ وقد كان علمي حينها كراهية تكرار نفس الآية في ذات الصلاة ، ولكنني شغلت عن السؤال طوال الإسبوع بمسألة فقهية أخرى، إذ ظل الوالد يسألني ويدارسني طوال ذلك الاسبوع عن كيفية استخلاف الإمام إذا حدث له مانع في الصلاة ؟ كنت أجيبه بما أعلم فيؤكد على ما أقول، ثم يعاود مدارستي للمسألة مرارا كأنني سأخضع قريبا لامتحان فيها !!! .
فلما حانت الجمعة التالية، حدث عطل في مولد خزان مياه القرية ،فتصديت للمهمة مع خالي ( كان حاضرا في مجلسنا يومها )، وكان الوالد مهتما جدا بأن يصلح الخزان قبل صلاة الجمعة وهو يحثنا على ذلك بعبارة مبهمة لم نعرف مقصده منها إلا لاحقا رغم ترداده المستمر لها، ينبهنا كلما رأى إحتمال تأجيل إصلاح خزان المياه : الماء لاغنى لكم عنه، سيأتيكم الضيوف بعد الصلاة !!!
يواصل الشيخ الحكاية: فقد تم تشغيل مولد خزان الماء قبيل صلاة الجمعة .
صعد الشيخ البدري المنبر، ولحق ابنه الشيخ عبد الله بالصلاة متأخرا بعض الشيئ بسبب انشغاله بإصلاح مولد خزان الماء وأخذ موقعه في الصفوف الخلفية بالمسجد، ولما كبر الشيخ البدري للصلاة قرأ مرة أخرى نفس الآية من سورة المؤمنون في ركعتى الجمعة تماما كما فعل في الجمعة السابقة (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) وطال السجود الأخير الذي فاضت فيه روحه المباركة إلى باريها.
حينها فقط فطن الشيخ عبد الله لدرس الاستخلاف في الصلاة الذي ظل والده يراجعه معه طوال الإسبوع الماضي دون أن يدرك المغزى إلا اللحظة ، والآن فقط إدرك قيمة إصرار الوالد على إصلاح مولد خزان المياه والضيوف الذين سيأتون بعد قليل.
تقدم الشيخ عبد الله وأكمل الصلاة وسلم، ثم رفع رأس أبيه ليجده قد فارق الحياة.
إذن قد رحل الشيخ البدري الشيخ عبد الله العبد لابي الصوفي الزاهد ، صاحب كتاب رسالة (الحكم ) التي استودعها بديع الرقائق والحكم ولطائف المعاني وعظيم الوصايا وهى بحق مادة فكرية وروحية نفيسة جليلة القيمة في كل سطر منها ،وقد شرفنا الله بطباعتها ضمن سلسلة رسائل الذاكرين .
آلت الخلافة من بعده إلى الشيخ عبد الله مما أضطره لمغادرة وظيفته كمهني متميز في رئاسة السكة حديد بعطبرة متفرغا لمهامه الإرشادية والدعوية في مقام بديع زمانه والده الشيخ البدري.
كان أفق الشيخ عبد الله البدري طموحا ونظرته ثاقبة وهو وارث العبارة الملهمة (العجب العجيب شرق القضيب) من والده صاحب حسن الختام على النحو الذي عرفنا!!!.
تمكنت من الشيخ عبد الله البدري فكرة أن ينجز نقلة نوعية كبرى في مسار التعليم الديني في السودان عبر مسارين، الأول العمل على إكرام وعفة الحفظة وذلك بتأسيس تعليم حرفي يستوعب حفظة القرآن الكريم من أبناء الخلاوي سواء من مسيد القدواب أو الخلاوي المنتشرة حوله في ولاية نهر النيل والشمالية عموما، والمسار الآخر هو تأسيس معهد أو كلية أو حتى جامعة علمية شرعية تتبعها تخصصات أخرى .
ذهب الشيخ عبد الله إلى الأزهر الشريف في مصر وقابل مشيخته وطلب منهم تأسيس فرع للأزهر بالسودان في القدواب ،ولكن مضت سنوات دون أن تتم الموافقة على طلبه الخطي الذي سلمه في اجتماعه بشيخ الأزهر رغم التزامه بتمويل المشروع كاملا .
عاد إلى السودان ، واليأس لا يعرف طريقه لأمثاله كما وصفهم شيخ شعراء السودان عبد الله الشيخ البشير:
فرن في رأسه هتوف
ولم تطق مقلتاه غمضا
وراح أينما أفاق تحضه البطاح حضا
أفق فلاخير في حياة تشف عن جاهلين مرضى
فشمر الشيخ مستجيبا
زلفى إلى ربه وقرضا
طرح الشيخ المشروع على السلطات ووزارة التعليم العالي في السودان فكانت الموافقة للبداية بكلية للدراسات الاسلامية ومعهد للتدريب التقني لحفظة القران الكريم.
وفر الشيخ للكلية والمعهد الجديد المباني والقاعات والورش والمعدات مع الداخلية والإطعام .
الذي يزور مباني الكلية (شرق قضيب السكة الحديد ) والتي تحولت لاحقا لجامعة تحمل إسم الشيخ عبد الله البدري يظن بأنه في بيئة جامعية خارج السودان ، بنيات مكتملة جميلة واسعة منظمة تتخللها الحدائق والمرافق والميادين .
والأهم من كل ذلك صار للكلية (الجامعة لاحقا ) سمعة طيبة حتى أن المؤسسات العامة والخاصة كانت تتنافس على خريجيها الذين تميزوا بالإضافة إلى حفظ القرآن الكريم بأنهم كفاءات مهنية عالية الجودة .
وتحت رعاية الشيخ وجهده المتواصل تحولت الكلية إلى جامعة بها عشر من الكليات في الدراسات التطبيقية والإنسانية والحرفية .
وهكذا تحقق حلم الشيخ في تحويل القدواب من قرية صغيرة على الضفة الشرقية لنهر النيل إلى مدينة تزكوية تربوية تعليمية وحرفية ، لها تجربة نوعية خاصة مزجت بتفوق وتوفيق بين العلم الشرعي والحرفي والأكاديمي .
لقد عز علينا جميعا وعلى أهل نهر النيل وبربر والقدواب خاصة نعى قامة دعوية ورجل إصلاح دعوي واجتماعي ومجدد فريد في همته وتعلقه بعظائم الإمور .
لقد كان الشيخ الراحل بالإضافة لما سبق رجل إصلاح موفق في تجاوز الصراعات وبتر العداوات وإصلاح ذات البين والسعى فيما ينفع الناس.
كل ذلك مع أدب جم رفيع وخلق حسن وكرم بلا حدود .
كان الشيخ عبد الله البدري حلو المنطق باهر الحجة وافر الرأى حكيم متعلق بأشراف الإمور .
يفوح من مجلسه عطر القبول وألق التسامي ومعاني الذوق .
عاش في الدنيا نسمة عطرت الحياة ونفع الله به خلقه وقدم نموذجا في تطوير التعليم الديني ما سبقه عليه أحد .
الدموع على فقده بقدر مياه نهر النيل والسحاب المسخر الفائض هذه الأيام .
والعرفان لفضله واجب كل منصف متجرد محب للصلاح والإصلاح.
العزاء لأسرته الكبيرة أهل السودان وولاية نهر النيل والتصوف، ولأهل بربر والقدواب .
وللأسرة الصغيرة إبنه الشيخ السجاد وإخوانه وأخواته وأرحامه أجمعين .
والدعاء لله تعالى أن يحسن فيه العزاء ويجازيه الفردوس الأعلى من الجنة ويلزم الصبر ويخلف على البلاد بأمثاله من أهل النفع والصلاح .
ولاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم